فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الموطّأ عن سعيد بن المسيّب {والمحصنات مِنَ النساء} هنّ ذواتُ الأزواج؛ ويرجع ذلك إلى أن الله حرّم الزنى.
وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية يُراد به العفائف، أي كل النساء حرام.
وألبسهن اسم الإحصان من كان منهنّ ذات زوج أو غير ذات زوج؛ إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك.
{إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالوا: معناه بنكاح أو شراء.
هذا قول أبي العالِية وعَبيدة السّلْمانيّ وطاوس وسعيد بن جُبير وعطاء، ورواه عَبيدة عن عمر؛ فأدخلوا النكاح تحت مِلك اليمين، ويكون معنى الآية عندهم في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني تملكون عصمتهنّ بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء، فكأنهنّ كلهنّ ملك يمين وما عدا ذلك فزِنًى، وهذا قول حسن.
وقد قال ابن عباس: {والمحصنات} العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب.
قال ابن عطية: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى؛ وأسند الطَّبرِيّ أن رجلًا قال لسعيد بن جُبير: أما رأيتَ ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئًا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها.
وأسند أيضًا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يُفَسِّر لي هذه الآيةَ لضربت إليه أكباد الإبل: قوله: {والمحصنات} إلى قوله: {حَكِيمًا}.
قال ابن عطية: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟. اهـ.

.قال الفخر:

اتفقوا على أنه إذا سبى أحد الزوجين قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام وقعت الفرقة.
أما إذا سبيا معا فقال الشافعي رضي الله عنه: هاهنا تزول الزوجية، ويحل للمالك أن يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملا من زوجها، أو بالحيض.
وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا تزول.
حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله: {والمحصنات مِنَ النساء} يقتضي تحريم ذات الأزواج ثم قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} يقتضي أن عند طريان الملك ترفع الحرمة ويحصل الحل، قال أبو بكر الرازي: لو حصلت الفرقة بمجرد طريان الملك لوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها وإرثها، ومعلوم أنه ليس كذلك، فيقال له: كأنك ما سمعت أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي، وأيضا: فالحاصل عند السبي إحداث الملك فيها، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص فكان الأول أقوى، فظهر الفرق. اهـ.
قال الفخر:
مذهب علي وعمر وعبد الرحمن بن عوف أن الأمة المنكوحة إذا بيعت لا يقع عليها الطلاق، وعليه إجماع الفقهاء اليوم، وقال أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وجابر وأنس: إنها إذا بيعت طلقت.
حجة الجمهور: أن عائشة لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مزوجة، ولو وقع الطلاق بالبيع لما كان لذلك التخيير فائدة.
ومنهم من روى في قصة بريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: «بيع الأمة طلاقها» وحجة أبي كعب وابن مسعود عموم الاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} وحاصل الجواب عنه يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
فيه وجهان:
الأول: إنه مصدر مؤكد من غير لفظ الفعل فإن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} يدل على معنى الكتبة فالتقدير: كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله، ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير نظيره {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب صُنْعَ الله} [النمل: 88] الثاني: قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر، ويكون {عليكم} مفسرا له فيكون المعنى: الزموا كتاب الله. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} نصب على المصدر المؤكّد، أي حُرّمت هذه النساء كتابًا من الله عليكم.
ومعنى {حُرّمت عليكم} كتب الله عليكم.
وقال الزجاج والكوفيون: هو نصب على الإغْراء، أي ألزموا كتاب الله، أو عليكم كتاب الله.
وفيه نظر على ما ذكره أبو عليّ؛ فإن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء، فلا يُقال: زيدًا عليك، أو زيدًا دونك؛ بل يُقال: عليك زيدًا ودونك عمرًا، وهذا الذي قاله صحيح على أن يكون منصوبًا بـ {عليكم}، وأما على تقدير حذف الفعل فيجوز.
ويجوز الرفع على معنى هذا كتاب الله وفرضه.
وقرأ أبو حَيْوَة ومحمد بن السَّمَيقع {كتَبَ الله عليكم} على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، والمعنى كتب الله عليكم ما قصّه من التحريم.
وقال عَبيدة السَّلْماني وغيره: قوله: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله تعالى: {مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} وفي هذا بُعْدٌ؛ والأظهر أن قوله: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {وَأُحِلَّ لَكُمْ} على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، عطفا على قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} والباقون بفتح الألف والحاء عطفا على {كتاب الله} يعني كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} قرأ حمزة والكِسائيّ وعاصم في رواية حفص {وَأُحِلَّ لَكُمْ} ردًّا على {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ}.
الباقون بالفتح رَدًّا على قوله تعالى: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ}.
وهذا يقتضي ألاَّ يحرم من النساء إلاَّ مَن ذُكر، وليس كذلك؛ فإن الله تعالى قد حرّم على لسان نبِّيه مَن لم يذكر في الآية فيُضمّ إليها؛ قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
روى مُسْلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجمع بين المرأة وعَمّتها ولا بين المرأة وخالتها» وقال ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعَمَّة أبيها بتلك المنزلة، وقد قيل: إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها متلقىً من الآية نفسها؛ لأن الله تعالى حرم الجمَع بيع الأُختين، والجمعُ بين المرأة وعمتها في معنى الجمع بين الأُختين؛ أو لأن الخالة في معنى الوالدة والعمّةَ في معنى الوالد.
والصحيح الأوّل؛ لأن الكتاب والسنّة كالشيء الواحد؛ فكأنه قال: أحللت لكم ما وراء ما ذكرنا في الكتاب، وما وراء ما أكملتُ به البيان على لسان محمد عليه السَّلام.
وقول ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة إنما صار إلى ذلك لأنه حمل الخالة والعمة على العموم وتمّ له ذلك؛ لأن العمة اسم لكل أنثى شاركت أباك في أصليه أو في أحدهما والخالة كذلك كما بيّناه.
وفي مصنّف أبي داود وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح المرأة على عَمّتها ولا العمةُ على بنت أخيها ولا المرأةُ على خالتها ولا الخالةُ على بنت أختها ولا تُنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى» وروى أبو داود أيضًا عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنّه كرِه أن يجمع بين العمّة والخالة وبين العمّتيْن والخالتين» الرواية «لا يجمعُ» برفع العين على الخبر على المشروعية فيتضمن النهي عن ذلك، وهذا الحديث مُجْمَعٌ على العمل به في تحريم الجمع بين مَن ذكر فيه بالنكاح.
وأجاز الخوارج الجمع بين الأُختين وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يُعْتد بخلافهم لأنهم مَرَقُوا من الدّين وخرجوا منه، ولأنهم مخالفون للسنّة الثابتة.
وقوله: «لا يُجمع بين العمتين والخالتين» فقد أشكل على بعض أهل العلم وتحيّر في معناه حتى حمله على ما يبعد أو لا يجوز؛ فقال: معنى بين العمتين على المجاز، أي بين العمة وبنت أخيها؛ فقيل لهما: عمتان، كما قيل: سُنّةُ العُمَرَين أبي بكر وعمر؛ قال: وبين الخالتين مثله.
قال النحاس: وهذا من التعسُّف الذي لا يكاد يُسمع بمثله، وفيه أيضًا مع التعسُّف أنه يكون كلامًا مكررًا لغير فائدة؛ لأنه إذا كان المعنى نهى أن يجمع بين العمة وبنت أخيها وبين العمتين يعني به العمة وبنت أخيها صار الكلام مكررًا لغير فائدة؛ وأيضًا فلو كان كما قال لوجب أن يكون وبين الخالة، وليس كذلك الحديث؛ لأن الحديث: «نهى أن يجمع بين العمة والخالة» فالواجب على لفظ الحديث ألا يجمع بين امرأتين إحداهما عمّة الأخرى والأخرى خالة الأخرى.
قال النحاس: وهذا يخرج على معنًى صحيح، يكون رجل وابنه تزوّجا امرأة وابنتها؛ تزوّج الرجلُ البنتَ وتزوّج الابنُ الأُمَّ فوُلد لكل واحد منهما ابنةٌ من هاتين الزوجتين؛ فابنة الأب عمّةُ ابنة الابنِ، وابنة الابنِ خالةُ ابنة الأب.
وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن يكونا امرأتين كُلّ واحدة منهما خالة الأخرى؛ وذلك أن يكون رجل تزوّج ابنة رجل وتزوّج الآخرُ ابنته، فوُلد لكل واحد منهما ابنة، فابنة كل واحد منهما خالةُ الأخرى.
وأما الجمع بين العمّتين فيوجب ألاّ يُجمع بين امرأتين كلُّ واحدة منهما عمّةُ الأخرى؛ وذلك أن يتزوّج رجل أمّ رجل ويتزوّج الآخر أُمّ الآخر، فيولد لكل واحد منهما ابنة فابنة كلِّ واحد منهما عمّةُ الأخرى؛ فهذا ما حرّم الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن.
وإذا تقرّر هذا فقد عقد العلماء فيمن يحرم الجمع بينهنّ عقدًا حسنًا؛ فروى مُعْتَمِر ابن سليمان عن فُضيل بن ميسرة عن أبي جرير عن الشعبيّ قال: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرًا لم يجز له أن يتزوّج الأخرى فالجمع بينهما باطل.
فقلت له: عمّن هذا؟ قال: عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان الثوْرِيّ: تفسيره عندنا أن يكون من النسب، ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء.
قال أبو عمر: وهذا على مذهب مالك والشافعيّ وأبي حنيفة والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث وغيرهم فيما علمت لا يختلفون في هذا الأصل.
وقد كرِه قوم من السلف أن يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرًا لم يحل له نكاح الأخرى.
والذي عليه العلماء أنه لا بأس بذلك، وأن المراعَى النسب دون غيره من المصاهرة؛ ثم ورد في بعض الأخبار التنبيه على العلّة في منع الجمع بين مَن ذُكر، وذلك ما يُفضِي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشَّنآن والشرور بسبب الغَيْرَة؛ فروى ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج الرجل المرأة على العمّة أو على الخالة، وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم». ذكره أبو محمد الأصيلي في فوائده وابن عبد البر وغيرهما.
ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة؛ وقد طَرَد بعض السلف هذه العلة فمنع الجمع بين المرأة وقريبتها، وسواء كانت بنت عمّ أو بنت عمة أو بنت خال أو بنت خالة؛ رُوي ذلك عن إسحاق بن طلحة وعِكرمة وقتادة وعطاء في رواية ابن أبي نجيح، وروى عنه ابن جُريج أنه لا بأس بذلك وهو الصحيح.
وقد نكح حسن بن حسين بن عليّ في ليلة واحدة ابنة محمد بن عليّ وابنة عمر بن عليّ فجمع بين ابنتي عمّ؛ ذكره عبد الرزاق.
زاد ابن عيينة: فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيتّهما يذهبن؛ وقد كرِه مالك هذا، وليس بحرام عنده.
وفي سماع ابن القاسم: سئل مالك عن ابنتي العَمّ أيجمع بينهما؟ فقال: ما أعلمه حرامًا.
قيل له: أفتكرهه؟ قال: إن ناسًا ليتّقونه؛ قال ابن القاسم: وهو حلال لا بأس به.
قال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا أبطل هذا النكاح.
وهما داخلتان في جملة ما أُبيح بالنكاح غيرُ خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة.
وقال السُّدِّي في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: يعني النكاح فيما دون الفرْج.
وقيل: المعنى وأحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقربائكم.
قَتادة: يعني بذلك مِلْك اليمين خاصّةً. اهـ. بتصرف يسير.